لمياء المقدّم: قصيدتي الحرّة أكتبها إن كنت حرّة | حوار

لمياء المقدّم

 

ملتصقة بتجربتها الشخصيّة، تكتب الشاعرة التونسيّة لمياء المقدّم ما يصير عندها شعرًا مفتوحًا على التجربة الإنسانيّة الكلّيّة. بيد أنّ هذا الالتصاق لا يجعلها تستكين لتجربة أو أسلوب أو ثيمة، فهي دائمة التجريب، وقد تعتبر توصيف مشروعها الكتابيّ ختمًا أو شارة تصير مشاريعها المقبلة نزعًا جميلًا لها. في مجموعتها الأخيرة الصادرة عن «منشورات المتوسّط»، بعنوان «في الزمن وخارجه»، تكتب الشاعرة المقيمة في هولندا ما يشبه سِيَرًا متعدّدة لتجربة الحبّ والجسد، مصحوبةً بأسئلة واعترافات وجوديّة بعيدة، فحتّى في الكتابة الّتي تبدو أقرب إلى توثيق حياتها الفرديّة، نجد مخابئ ومسارب وأبوابًا لعوالم جمعيّة تستظلّ بالأولى وتتشعّب منها.

وُلِدَت لمياء في مدينة سوسة التونسيّة، لأمّ تنظم الشعر فطريًّا رغم أمّيّتها، وفي بيئة محبّة للشعر، حتّى صار هذا جزءًا من تكوينها. صدر لها شعرًا: «بطعم الفاكهة الشتويّة» (2007) و«انتهت هذه القصيدة، انتهى هذا الحبّ» (2015). وبعد انتقالها إلى العيش في هولندا، عملت صحافيّة ومقدّمة برامج إذاعيّة في إذاعة هولندا الدوليّة، وحصدت عام 2001 على «جائزة الهجرة للأدب» في هولندا. مدفوعةً بحبّها للسير والترجمة، من باب الفضول الشخصيّ لا الامتهان، نقلت إلينا عن اللغة الهولنديّة روايتَي «أنت قلت» و«مالفا».

في هذه المقابلة الّتي نجريها معها في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، تُحدّثنا الشاعرة عن انشغالاتها ومشاريعها القادمة، وعن تونس، والمكان الأوّل.

 

فُسْحَة: كيف قضيتِ فترة الحجر؟ وكيف مرّت السنة الأخيرة عليكِ؟

لمياء: كانت تلك فترة لا تخلو من صعوبة، كما اختبرها معظم الناس. فكرة الحجر فكرة مؤذية. نحن معتادون على الكثير من الحرّيّة، وندخل البيت لأوقات قصيرة. هكذا هم الهولنديّون. في ثقافتهم، لا ينبغي أن يستغرق تنظيف البيت أكثر من نصف ساعة، والحياة تُمارَس في الخارج؛ وعليه، فمن الصعب أن يعتاد المرء على حياة عكسيّة يمارسها داخل البيت. كثيرون قالوا إنّهم يعيشون فترات من التفكير والتأمّل والقراءة. بصراحة، كان بالنسبة إليّ زمنًا من الشلل التامّ تقريبًا. كنت بدأت بكتابة مؤلّف جديد، فقطعت فيه شوطًا جيّدًا، وها هو على وشك الانتهاء. لا يمكنني القول إنّها كانت سنة مثمرة. ثمّة تخدير أصاب الناس في انتظارهم مرور الأزمة وعودة الحياة إلى عهدها. ربّما في ثقافتنا العربيّة، يعني البيت الكثير بالنسبة إلينا، على عكس الهولنديّ الّذي يدخل البيت للنوم فحسب. أقول إنّها فترة سبات جسديّ وذهنيّ.

 

فُسْحَة: حدّثينا عن الكتاب، وهل تأثّرت موضوعات الكتابة بالمرحلة؟

لمياء: عنوان الكتاب «كتاب الجسد»، ويتناول فكرة الجسد تناولًا شعريًّا. بدأت بالاشتغال عليه قبل سنة، فكرته كانت ناجزة بالنسبة إليّ، على عكس الأعمال الّتي تتبيّن موضوعاتها خلال كتابتها. من الطبيعيّ أن تؤثّر هذه الفترة في جوهر الكتابة، من حيث الأسلوب والموضوعات، ولا أستبعد أن يكون التأريخ لاحقًا من قبل النقّاد لأدب يميّز هذه المرحلة، ويشترك في الكثير من الخاصّيّات. إذا ركّزت على الكتابات الراهنة فستجدينها مصبوغةً بنبرة من التأمّل الداخليّ والانشغال بالنفس، والمحيط الضيّق الّذي وُجِدْتُ فيه قسرًا. الكتابة موجّهة إلى الذات أو نابعة منها. ثمّة نوع من الارتداد إلى الداخل، في رأيي، يتميّز بلغة ذاتيّة، وإن حاولت أن تتناول مواضيع بعيدة عن الذات. في هذه المرحلة، الإنسان مركز نفسه، ماضيه ومستقبله حاضران بقوّه، جسده كذلك، وقد يتعاطى معه على نحو مختلف. المادّة، ممثّلة بالجسد، محصورة في مكان أصبحت معه مادّة أوّليّة للكتابة. ليس لديّ فكرة شاملة عن كلّ ما يُكْتَب، لكن تلك بعض الانطباعات، وقد تظهر لاحقًا ملامح لمرحلة كتابيّة تتمتّع بميّزاتها الخاصّة.

 

فُسْحَة: تقولين في قصيدة «لا أحبّ بلادي»: كأس ويسكي في ليلة صيفيّة يُنسيني إخوتي السبعة. هل في ذلك انعتاق من المكان؟ كيف تنعكس علاقة الحرّيّة من المكان على الكتابة؟

لمياء: في هذه القصيدة بوح بذنب ما، في حين أنّكِ تعتقدين أنّك نجوت دون الباقين. تذهب الشخصيّة في القصيدة بشكل يوميّ إلى البحر لتنتظر - هي الناجية، بعد أن غرق الباقون - أن تطفو جثثهم على السطح. كتبتها خلال الثورة التونسيّة، عندما تملّكني إحساس بالذنب لعدم وجودي هناك ومشاركتي فيها. لا يمكن أن أنعتق من المكان؛ فالمكان حاضر في تكوين شخصيّتي. ربّما انعتقت من فكرة الانتماء الشوفينيّ إلى مكان ما. لكنّي لم أنعتق من انتمائي العاطفيّ. لا يمكن المرء أن يتجاوز علاقته بمكان نشأته حيث وُلِدَ ووُلِدَتْ تجاربه الأولى؛ وعليه، يصعب أن يعيش المرء فوق فكرة المكان، ولا سيّما إن كان المكان بالنسبة إليه قد صار أمكنة كثيرة، فيستحيل الإنسان كونيًّا، والمكان ليس الركيزة.

 

فُسْحَة: كيف اخترتِ الهجرة إلى هولندا؟ وعلى أيّ نحو أثّرت الهجرة فيك كاتبةً؟

لمياء: نشأت ودرست وكتبت أولى قصائدي في تونس. ثمّ قدمت إلى هنا بعد أن أنهيت دراستي الجامعيّة. السنوات الأولى من محاولة التأقلم مع المكان لم تكن سهلة، وبعد تجاوزها أصبحت أشعر بأنّي في مكاني. عندما أسافر، أشعر بحنين إلى بيتي في هولندا لا إلى تونس؛ فالبيت ليس الجدران، بل العمل والعلاقات الاجتماعيّة والأولاد. لقد أضاف إليّ هذا المكان هامش حرّيّة منزوعة من الضوابط الاجتماعيّة والدينيّة والرقابيّة. دون الحرّيّة التامّة، لا يمكن الكاتب أن يقدّم إبداعًا حقيقيًّا. منحتني هولندا ذلك رغم أنّ قرّائي من ثقافة أخرى، مؤخّرًا تُرْجِمَ ديواني إلى الهولنديّة، وتابعني قرّاء هولنديّون. وجود الكاتب في بيئة متحرّرة ينعكس على شخصه بصرف النظر عن المتلقّي، الّذي لن تواجهيه في حياتك الاجتماعيّة. بينما قد تخاف الشاعرة العربيّة في المنطقة العربيّة من أن تلتقي عيناها بعينَي المتلقّي، وهي تقرأ نصًّا مخالفًا للأعراف أو الدين. تعلّمت الصدق في الكتابة، الصدق المطلوب في كلّ شيء هنا، وهو ليس ميزة بل هو واجب. قبل أن أكتب قصيدة حرّة يجب أن أكون إنسانة حرّة.

 

فُسْحَة: قرأ كثيرون مجموعتك الأخيرة على أنّها مجموعة عن الحبّ والجسد. أنا شعرت بأنّ الجسد فيها يشكّل عالمًا شعريًّا. وقد قلتِ في إحدى قصائدك: الجسد خيال محض.

لمياء: الشعر أكبر من الإنسان وأكبر من الشاعر، ثمّ إنّ الشعر ليس الشاعر. الشاعر ابن بيئته وزمنه، ولكنّ الشعر يلائم أيّ مكان أو ثقافة أو زمان. كلّما اقترب الشعر من عمق الشاعر لامس التجربة الإنسانيّة الكلّيّة، كلّما اقترب الشاعر من نفسه، اقترب من الإنسان في كلّ مكان. نحن نكتب في ثيمات تخصّنا؛ حتّى يقرأَنا شخص في الصين فيتعرّف على نفسه. الاقتراب من النفس هو الوسيلة الوحيدة للاقتراب من الشعر، والأخير هو تخليد للتجارب الإنسانيّة. هكذا يصير الشعر مستقلًّا، فيموت الشعراء ويبقى الشعر. أمّا عن الكتابة عن الجسد، فربّما صُنّفت أحيانًا على أنّي شاعرة الجسد، وقد تكرّرت هذه العبارة في قراءاتٍ في كتبي، حتّى من قِبَل الهولنديّين أنفسهم، فأصبح الأمر مثل ختم على مشروعي. أعتقد أنّي أذهب في الكتاب الأخير للكتابة عن الجسد إلى أقصى حدّ؛ كي أنهي هذا الانشغال الشعريّ والفكريّ بالجسد، وأذهب إلى مناطق جديدة أخرى في الكتابة.

 

فُسْحَة: وكيف يختلف كتاب الجسد الّذي تكتبينه الآن؟

لمياء: في هذا الكتاب، الجسد هو الّذي يتكلّم ويروي قصّته منذ لحظة ولادته، دون تدخّل الشاعر. رغبت في أن أنهي من خلاله مرحلة ما من مراحل الكتابة عن الجسد. ربّما لأنّ الجسد كان دائمًا حاضرًا في حياتي. الآن مثلًا أنا أدخل مرحلة من العمر جديدة، ألاحظ فيها تغيّرات جسديّة ونفسيّة معقّدة. دائمًا كان ثمّة إعلاء لقيمة الفكر مقابل الجسد لأنّه مادّة رخيصة، عكس الفكر الّذي كان دائمًا في مرتبة أعلى. في النصّ الّذي أعمل عليه، إعادة اعتبار للجسد وإعلاء من شأنه. شخصيًّا أرى في الجسد عقلًا موازيًا، يشعر ويتكلّم ويتفاوض مع أعضائه، ويقاوم فكرة الغرق، ويتذكّر ويبكي ويشمّ على غرار العقل الحسّيّ. تُنْسَبُ هذه الأفعال إلى الأخير، لكنّي في الكتابة أجعل الجسد مالكًا لهذه الوظائف.

 

فُسْحَة: أودّ لو نتحدّث عن ترجماتك. نقلتِ روايات من الهولنديّة إلى العربيّة، تتشارك جميعها في أنّها تروي سيرًا ذاتيّة. هل اخترتها لأنّها كذلك؟

لمياء: ليست الترجمة خيارًا بالمعنى الدقيق للكلمة. لم أذهب إلى الترجمة بشكل واع، بل من باب التجريب. عندما ترجمت رواية «أنت قلت» لكوني بالمن، لم أكن قد ترجمت أعمالًا كاملة، ولم أقصد أن أتّجه نحو مهنة الترجمة كما يفعل كثيرون من المترجمين العرب. أتعاطى مع الترجمة على أنّها استراحة أو متنفّس من الكتابة، فيها إعادة إنتاج لعمل كتبه الآخرون، وفيها انخراط في فكر كاتب آخر وأسلوبه. ذلك ليس تقزيمًا من شأن الترجمة، إن قلت إنّها إعادة صياغة. أنا شخصيًّا استمتعت بترجمة ما ترجمته من أعمال. وبما أنّ الترجمة ليست مهنتي الأساسيّة، فأنا لا أترجم بالإملاء وما يطلبه منّي الناشرون، ويحصل هذا كثيرًا، إلّا أنّي أترجم ما يستهويني. أنا لست مترجمة محترفة، ولا أترجم بحثًا عن دور أو عائد مادّيّ، وهذه حرّيّة تُضاف إلى بقيّة الحرّيّات. أمّا عن السِّيَر، فقد بدأت بسيرة تيد هيوز وسيلفيا بلاث، فهما معروفان لدى العرب أوّلًا، وثانيًا تكتب الكاتبة على لسان تيد هيوز، فلغة السرد شعريّة. كنت أكيدة أنّ ترجمته ستكون ممتعة؛ فهو يتناول حياة شاعر وشاعرة. ثمّة خليط مثير في أنّ الكاتبة امرأة والراوي رجل، تحاول هي أن تقف موقفه وتروي قصّته مع سيلفيا بلاث. جذبتني هذه العناصر بالإضافة إلى اللغة والسرد المشوّق. ولعلّ هناك سرًّا ما في انجذابي إلى الكتاب، هو التقاطع بين حياتي وحياة سيلفيا بلاث في بعض التفاصيل الصغيرة. أمّا الكتاب الثاني، «مالفا»، فكان روايتها الأولى للشاعرة هاخار بيتيرز، ولنفس الأسباب جُذِبْتُ إليها. رواية كُتِبَت بالكثير من الشعر والمسرح والتجريب والأجناس المتداخلة؛ فخرجت كاتبتها برواية ثريّة. مالفا هي ابنة نيرودا الّتي تموت دون أن يذكرها أو يعترف بها. الكاتبة دافعت عن هذه الصبيّة الّتي تجاهلها أبوها، من خلال منحها صوتها الخاصّ وحكايتها. تخيّلي فتاة تحكي عن والدها الشاعر العظيم نيرودا، وتروي قصّتها بعد موتها. هناك تلتقي بكتّاب وشعراء وفلاسفة نتمنّى كلّنا أن نلتقيهم. وتدخل معهم في حوارات حول أعمالهم. بشكل عامّ، حين أفكّر في ترجمة كتاب، أفكّر مدّة طويلة من الزمن، مدّة أطول من مدّة الترجمة نفسها. أحبّ أن أترجم أعمالًا فيها التقاء لصنوف عدّة من الأشكال والتجريب؛ فتضيف جديدًا إلى القارئ العربيّ، وتفتح أمامه أبوابًا مختلفة. هذا هو منطقي في الترجمة. الآن أفكّر في ترجمة كتاب توفّي كاتبه، وحقوقه مع صديق له، وهذا رجل مدمن على الكحول، لا يخرج من الحانة، ولا يريد أن يبيع الحقوق. ربّما لن يُتَرْجَمَ هذا الكاتب بسبب صديقه الّذي لا يودّ، من جهة المبدأ، أن يصرف أموال الحقوق على الكحول.

 

فُسْحَة: طريفة وحزينة هذه القصّة. أرغب في أن أختم حواري معك بسؤالك عن طفولتك. نشأت في بيئة شعريّة؛ أمّك كانت تقول الشعر، ولديك أخوال شعراء كما فهمت من إحدى مقابلاتك. حدّثينا عن هذه الطفولة، وعن تشكيلها لشخصيّتك الشعريّة.

لمياء: أمّي كانت أمّيّة لا تقرأ ولا تكتب، لكنّها كانت تقول الشعر للمفارقة العجيبة. والدي كان يقرأ ويكتب ويحبّ الكتب. أمّي جاءت من عائلة متعلّمة، وكان ذلك أمرًا نادرًا نوعًا ما. والدها كان شيخًا يدرّس في الكتّاب، علّم أولاده الذكور فالتحقوا بـ «الزيتونة» (وهو في مقام «الأزهر» في مصر). أخوالي محبّون للشعر فكانوا يردّدونه. وكان لأمّي قدرة على نظم الشعر النبطيّ، فكانت حينما تتعرّض لموقف ما، تقول الشعر على الفور، فتهجو أو تمدح، كان لديها إحساس شعريّ عالٍ جدًّا. يحفظ بعض الأقرباء قصائدها ويتناقلونها. أذكر أيضًا أجزاء من قصيدة قالتها حين غادرت تونس. أكثر الأشخاص الّذين شجّعوني على الكتابة كان أخي، يكبرني بأربع سنوات، وقد تعرّض لحادثة بُتِرَتْ فيها يداه وقدمه. في الليالي والأمسيات الطويلة، كان يلعب معنا ألعابًا فكريّة، فيسأل عن الشعراء والكتّاب، كان يقرأ ما أكتب، ويتوقّع أن أصبح شاعرة. تلك هي البيئة الّتي تأثّرت بها في صغري. كتبت أوّل قصيدة حين كنت في الرابعة عشرة، أذكر أنّي عرضتها على أستاذي، فاستغرب وشكّك في أن أكون أنا الّتي كتبتها. مثلما فعل الجميع، فقد بدأت بكتابة الشعر الكلاسيكيّ الّذي تأثّرنا به في صغرنا في المدرسة، ثمّ مررت بمراحل التأثّر بقصائد أجيال لاحقة كنزار قبّاني ومحمود درويش، إلى أن بدأت بخوض تجربتي الشعريّة الخاصّة.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.